حديث الجمعة بقلم علي الشافعي
شكرا كرونا
ستقولون ــ يا دام سعدكم ــ : هذا رجل اما مجنون , او يسبح ضد التيار ويغرد خارج السرب , او بوم ينعق في الخراب , وانا اقول لكم لا هذا ولا ذاك , اقولها بملء فيَّ وانا بكامل قواي العقلية ــ ان بقي عقل لدى احد في زمن العجايب ــ كيف ولماذا اشكر كرونا ؟ سأقول لكم وامري الى الله :
شكرا كرونا لأنها اذلت الطغاة وجبابرة الامم العظمى , الذين كانت اساطينهم تجوب الفضاء , اساطيلهم تجوب الارض بكل تكبر وتجبر وخيلاء , تضرب في مكان وتهدد اخر وتمتص وتستنزف دماء وخيرات ثالث , يكفي ظهورهم على الشاشات لترتقص لمراهم شوارب ولحى , وترتجف قوائم وفرائص . كرونا مرغت انوف هؤلاء الجبابرة , وعرفتهم ان قوتهم وحضارتهم واقتصادهم وتقدمهم تهاوى أمام مخلوق من مخلوقات الله لا يرى بالعين المجردة . شل حركتهم وحبسهم في بيوتهم اياما , وقد يمتد الحبس لأسابيع وربما لأشهر , الامر الذي جعل الواحد منهم تلو الاخر يعترف بعجز تدابير اهل الارض , وليس امامهم الا تدابير السماء .
شكرا كرونا لأنها شنت على الارض حربا كونية ,حيدت فيها ترسانات اسلحة الدمار الشامل , في قوى الاستكبار العظمى , ولم تسمح لها بالخروج من مخازنا , وما سمحت لهذه القوى ان تتباهى على مر التاريخ بجنرالاتها , ولا بجيشها الذي لا يقهر ولا إمبراطوراتها التي لا تغيب عنها الشمس , وجعلت زعماءهم ك(دون كيشوت) يحاربون طواحين الهواء .
شكرا كرونا لأنها شغلت اساطين الحروب في بلادنا المنكوبة بأنفسهم وخوفهم على مناصبهم ومكاسبهم , فأوقفوا هجماتهم ولو لمدة من الزمان , بانتظار ان يراجعوا انفسهم ويوقفوا تلك الحروب العبثية التي اودت بحياة الملايين , وشردت اخرين بلا ذنب اقترفوه , مقابل كرسي هو لا بد زائل .
شكرا كرونا لأنها كشفت زيف كل التدابير الاحترازية لحماية اصحاب الالقاب المهمة , فهي لا تفرق بين غني وفقير ولا بين عالم وجاهل , وامير وراع , وتهاوت الالقاب بتهاوي التدابير التي دبروها , كما تهاوت صروحهم التي ما عادت لهم حامية .
شكرا كرونا لأنها وحدت الامة العربية من محيطها الى خليجها في حبس كبير, وازالت الحواجز والحدود , فالأزمات توحد الشعوب , انا اقول الشعوب وليس السادة والعبيد , فيحس المغربي بأخيه في المشرق , توحدهم المخاطر , وتجمع كلمتهم النوائب . فالخطر دخل كل بيت , فلا حدود توقفه ولا تدابير تهزمه , فتوحدوا على التضرع لله سبحانه لرفع هذا البلاء وكشف الضر . ثم يعيدوا حساباتهم , فيصوبوا اخطاءهم ويجددوا صلتهم بالله سبحانه وعهدهم معه .
شكرا كرونا لأنها كشفت لنا زيف الشعارات الرنانة والخطب العصماء , كشفت لنا من هم مع الوطن وقلبهم عليه , ومن اداروا له ظهورهم , اكلوا خيراته واثروا من موارده وعلى حساب المستضعفين من اهله , وعند الحاجة تركوه لمصيره واختفوا , فاذا ما تعافى وسيتعافى بإذن الله عادوا لنهش لحومه مرة اخري :
جزى الله المصائب كل خير عرفت بها عدوي من صديقي
شكرا لكل من وقف مع الوطن يخفف من معاناة اهله , شكرا لكل جهد بناء بذل , شكر لكل مسؤول نزل الميدان لا لتلتقط له الصور , بل ليطلع بنفسه على ايصال الخدمات لكل مواطن , وليجد الحلول المناسبة لكل معضلة . شكرا للنقابات المهنية عامة ولنقابة المعلمين خاصة , التي كانت من اوائل المبادرين لإغاثة الوطن ماديا ومعنويا رغم شح الموارد , فالوطن يستحق ان نقف معه .
شكرا كرونا لأنها بددت مقولة اننا شعب كشر لا يضحك كما يقولون حتى (للرغيف السخن ) , فقد فجرت هذه الازمة القرائح , وجعلت منها ارضا ثرية لتبادل النكت والفكاهات والضحكات والاغاني والاهازيج , فأصبحت فاكهة مجالسهم , ومكان تندرهم على وسائل التواصل الاجتماعي , ضحكات مدعمة بالصور احينا والفيديوهات اخرى , قديما كانت المقولة عندنا ان الشعب المصري ابن نكتة , واليوم اكتشفنا ان كل الشعوب العربية تولّد نكاتها من رحم الماسي والازمات .
اقول ــ يا دام سعدكم ــ :انا معلم واعرف في التربية شيء اسمه التغذية الراجعة ؛ أي صدى العملية التعليمية على متلقيها وهل نجحت ام فشلت , وكذلك تدربنا على فن ادارة الازمات , فهل ادارت حكومتنا الفاضلة الازمة بشكل جيد ؟ وهل نستفيد من التغذية الراجعة من الميدان في هذه الازمة , فنتفادى المظاهر السلبية التي تسيء الى الوطن والمواطن , وتكون قراراتنا مدروسة اكثر , ونستمع للراي الاخر , ولا نتشبث بآرائنا على نظام (عنز ولو طارت) فالعالم اليوم قرية صغيرة , الكل يرى ويسمع ويحكم . فهمكم كفاية
واخيرا الا تتدبرون معي هذه الآية الكريمة , فلربما انطبقت على زماننا ولربما من تدبرها اخذنا العبر : (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) يونس/24 .
وقاكم الله وايانا شر الكرونا واخوانها من بني جلدتنا , الذين قد يكونون اخطر منها علينا , وازال عنا هذه الغمة . طاب يومكم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق