كانت اللّيلة الماضية تعيسة،تشتكي للقدر هجوم الضّجيج...، كان النّوم واقفا أمام النّافذة المُوصدة يسترق السّمع إلى غريب ينتحب مُحاولا اقتحام غُرفتنا...حاولتُ إغراء النّوم بالتّثاؤب لعلّه يسقي عقلي من مائه ويروي قلبي من نقائه،...لكنّه تفطّن إلى حيلتي قائلا:"ألا يكفيني ضجيج هذا الغريب لأواجه كيد النّساء؟،...أنتِ تطلبين عناقي، وطلبك مستحيل،.هل رافقتني الرّاحة لأمنحكِ إيّاها،..لقد فرّت الرّاحة اللّيلة إلى مكان بعيد لا يعرفه أحد،...لقد قالت هي الأخرى:"لا مكان لي بينكم بعد أن هاجر الهدوء والسّكينة"... فاستغربتُ الأمر وخاطبتُ النّوم:"من هذا الغريب الذي حضر اللّيلة مُحاطا بالأرق والضّجيج فأدخل علينا الفوضى وأصبح الليل نهارا شديد السّواد"... ردّ النوم وهو لازال يُراقب ذلك الغريب الذي أيقظ الأشجار والزهور:"ألم تعرفيه؟إنّه التّاريخ،ذاك العظيم الذي لا يكذب،أو ذاك الذي كُنّا نظنّ أنّه لا يكذب، هاهو يُعلن ثورة على بني البشر الذين عيّنهم جنودا في مملكته،ووفّر لهم الأوراق والأقلام،ومنحهم نهرا من الحبر لا ينضب ليكتبوا ما عاينوه من حياة الناس على الأرض...لقد وهبهم ثقته بعد أن أقسموا بمُقدّساتهم أن لا يخونوا ما رأته أعينهم وأن لا يُزوّروا ما سمعته آذانهم وأن لا يكتبوا إلا ما سجّلته ضمائرهم،.. لكن.....لقد غيّر هؤلاء البشر الماضي بل حرّفوه...،هاهم اليوم يكتبون الحاضر بحبر من ماء الحضيض،...لقد حاصروا التاريخَ -ملكَ الحقيقة- في غرفته،ووضعوا على بابه حُرّاسا شربوا ماء النّذالة،وسرقوا ختمه ليُوقّعوا باسمه كلّ ما كتبوه....،هي الحقائق التي وصلتنا منذ عصور!!!...فكيف لنا أن نُميّز بين الزّيف والحقيقة!!!.أحداث دوّنها هؤلاء،لكنّ حروفهم لم تنفذ إلى عقول القرّاء...نحن لا نحتاج إلى كتاباتهم لأنّنا تغيّرنا،وأصبحنا قادرين على قراءة الكذب بين سطورهم"...دفعتُ النّوم الخائف بعيدا،وفتحتّ النّافذة المُوصدة،فوجدتُ شيخا يرتدي جلدا مُهترئا منذ قرون،يتّهم القدر اللّعين بالظّلم لأنّه أهداه جنودا من البشر لم يكونوا على الأحداث أمينين... فقلت له:"هلّا ابتسمتَ للحياة وعُدْتَ إلى مملكتك الحصينة، فقد اكتشفنا خيانة هؤلاء للضمير ووكّلنا أمر الكتابة لغيرهم...، سَنَكْتُبُكَ أيّها التّاريخ من جديد،سنُكْرِمُكَ بثوب وريد...رحل التّاريخ فوق حصان عتيد بعد أن أقسم أنّه لن يجعل القدر العنيد يكتب على أوراقه إلا تاريخ الإنسانية المجيد دون تحريف من العبيد...نعم دون تحريف من العبيد...
ليلى كافي/تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق