الأحد، 1 يناير 2017

إنَّ بَعْدَ العُسْرِ يُسْرًا / بقلم الشاعر / رضا يعقوب

إنَّ بَعْدَ العُسْرِ يُسْرًا

هَا إِنَّ اللَّيْلَ يُلْقِي رِدَاءَهُ الأَسْوَدَ عَلَى غُرْفَتِي ، عَلَى عَالَمِي الصَّغِيرِ الذِّي احْتَضَنَ تَأَوُّهَاتِ نَفْسِي طَوِيلاً ، الذِّي رَعَى أَحْلاَمِيَ البَرِيئَةَ لَيَالِيَ عَدِيدَةً الذِّي مَارَسْتُ فِيهِ مَا يَمْنَعُنِي مِنْهُ وَطَنِي ، نَعَمْ فِي هَذَا العَالَمِ الصَّغِيرِ تَلْبَسُنِي إِنْسَانِيَتِي التِّي شَرَّدَهَا وَطَنِي ، التِّي بَصَقَ عَلَيْهَا وَطَنِي ، وَلاَ يَهُمُّنِي إِنْ عَادَتْ إِلَيَّ مُغْبَرَّةً ، ثَقِيلَةً الخُطَى ، تَئِنُّ مِنْ وَجَعٍ مُنْكَرٍ ...المُهُمُّ أَنْ تَعُودَ إِلَيَّ...هَا إِنَّ خَفَافِيشَ لاَذِعَةً تَنُطُّ حَوْلِي هُنَا وَهُنَاكَ تَزِفُّ إِلَيَّ مَوْكِبَ أَحَاسِيسَ مُحْرِقَةٍ ،مُؤْلِمَةٍ ، مُفْجِعَةٍ، كَمْ تَمَنَّيْتُ كَثِيرًا أَنْ تَهْجُرَنِي، أَنْ تَرْحَمَنِي ، أَنْ تَتَنَاسَانِي ،أَنْ تَمَلَّ الإِقَامَةَ عِنْدِي ...يَتَوَغَّلُ اللَّيْلُ فِيَّ أَكْثَرَ فَتَقْتَرِبُ مِنِّي تِلْكَ الخَفَافِيشُ فأَرَى اضْطِرَابِي فِي هَذِهِ الحَيَاةِ ، ذَلِكَ الاضْطِرَابَ القَاتِلَ ، أُحِسُّ نَفْسِي أَنِّي تِلْكَ الرَّحَى ،آهٍ لَوْ تَدْرِي الرَّحَى كُنْهَ عَمَلِهَا لَكَفَّتْ عَنِ الدَّوَرَانِ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ يُعَذِّبُهَا، أَمَّا أَنَا فَأُدْرِكُ أَنِّي أَدُورُ فِي حَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ لَكِنْ لاَ أَسْتَطِيعُ الكَفَّ عَنِ الدَّوَرَانِ ....نَعَمْ تِلْكَ هِيَ حَقِيقَتِي :أَنَا أضْطَرِبُ بِلاَ هَدَفٍ ، بِلاَ غَايَةٍ تَشُدُّنِي إِلَى الحَيَاةِ ...أَرَى نَفْسِي فِي صَحْرَاءَ مُوحِشَةٍ مُقْفِرَةٍ لاَ يَنْعَقُ فِيهَا إِلاَّ الضَّيَاعُ وَالتَشَرُّدُ ،أَرَى كُثْبَانَهُ تَتَلَوَّى ، تَقْتَرِبُ مِنِّي ،ثَعَابِينُ  هِيَ تُرِيدُ أَنْ تَبْتَلِعَنِي  ، إِنَّهَا حِبَالٌ مُتَحَرِّكَةٌ تُرِيدُ أَنْ تَخْنُقَنِي وَلَكِنَّهَا تَرْفُضُ أَنْ تَقْتُلَنِي ، أَسْمَعُ فَحِيحَ الأَفَاعِي يُغْرِقُنِي ، يَمْلَأُ نَفْسِي ، يَسْرِي فِي عُرُوقِي يَخْتَلِطُ بِدَمِي لَكِنَّهُ يَرْفَضُ أَنْ يُسَمِّمَنِي ...أَرَى كُلَّ النُّسُورِ تَشْحَذُ مَخَالِبَهَا ، تَسْتَعِدُّ هِيَ لِوَلِيمَةٍ عَظِيمَةٍ لَكِنَّهَا لاَ تَقْتَرِبُ مِنِّي، إِنَّهُ المَوْتُ البَطِيءُ وَمَا أَبْشَعَهُ مَوْتًا ،أَمُدُّ يَدَيَّ، أُرِيدُ النَّجَاةَ فَإِذَا النَّجَاةُ بَيْنَ يَدَيَّ قَبْضُ رِيحٍ ، أُرِيدُ أَنْ أَبْكِي فَأَنْفُضُ عَيْنَيَّ فَإِذَا بِالدُّمُوعِ تَتَحَجَّرُ دَاخِلِي فَلاَ تُنْقِذُنِي، أُرِيدُ أَنْ أَصْرُخَ فَإِذَا الصُّرَاخُ أَنَّاتٌ كَسِيحَةٌ لاَ أَكَادُ أَسْمَعُهَا ، أُرِيدُ أَنْ أَمُوتَ سَرِيعًا فَإِذَا المَوْتُ يَجْلِسُ قُبَالَتِي ، يُجَاوِرُنِي ، يَضْحَكُ ، إِنَّهُ يَحْثُو عَلَيَّ التُّرَابَ إِنَّهُ يَرْكُسُ عَلَيَّ ، إِنَّهُ لاَ يُرِيدُ أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ لِيَقْتُلَنِي....يَا لَهُ مِنْ مَصِيرٍ فَاجِعٍ
أَرَى نَفْسِي فِي مَدِينَةٍ وَاسِعَةٍ عَاهِرَةٍ ، لاَ تُثَمِّنُ الأَخْلاَقَ ، تُدَاسُ فِيهَا الأَخْلاَقُ ، تَرَى الأَخْلاَقَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَسِعَكَ مُوَلْوِلَةً تَبْكِي مَكَانًا كَانَتْ فِيهِ مُحَصَّنَةً ، تَرَى الأَخْلاَقَ فِي كُلِّ زَمَانٍ احْتَضَنَكَ نَائِحَةً تَبْكِي زَمَانًا كَانَتْ فِيهِ مُقَدَّسَةً، أَرَى  طُرُقَ تِلْكَ المَدِينَةِ مَتَاهَاتٍ ، مَجَاهِلَ مُضَلِّلَةً تَلْحَسُ كُلَّ مَشَاعِرَكَ ، كُلَّ إِنْسَانِيَتَكَ ،أَهَذِهِ مَدِينَةٌ أَمْ مَبْغًى؟ أَهَذِهِ مَدِينَةٌ أَمْ سِجْنٌ؟ أَهَذِهِ مَدِينَةٌ أَمْ مَقْبَرَةٌ؟ إِنَّهَا رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ تَخْنُقُ أَنْفَاسَكَ ، تُرْدِيكَ فِي مَزْبَلَةٍ نَتِنَةٍ رَائِحَتُهَا ، تُكَفِّنُكَ هُنَاكَ ، تَقْبُرُكَ هُنَا،...يَا لَهُ مِنْ وَجَعٍ يَسْكُنُنِي ، يَا لَهُ مِنْ وَجَعٍ يَفْجَعُنِي...
وَجَعٌ مُمِضٌّ ، حَيْرَةٌ مُتَّصِلَةٌ ، آهَاتٌ تَثِرُّ بِهَا النَّفْسُ ، سُهْدٌ يَرْتَعُ فِي عَيْنَيَّ ...ذَلِكَ هُوَ عَالَمِي هَذِهِ الأَيَّامَ ، قَدْ أَحْسَنَ وَاللهِ تَطْوِيقِي ، قَدْ أَتْقَنَ وَاللهِ حِيَاكَةَ كَفَنِي، قَدْ اجْتَهَدَ وَاللهِ فِي اخْتِيَارِ قَبْرِي، أَتَحَسَّسُ وُجُودِي فَلاَ وُجُودَ، أَتَحَسَّسُ إِنْسَانِيَتِي فَلاَ إِنْسَانِيَّةَ، أَسِيرُ بَيْنَ الآخَرِينَ أَحْتَضِنُ وَجَعِي ، أَسِيرُ بَيْنَهُمْ أَتَأَبَّطُ مَأْسَاتِي وَلاَ أَحَدَ يَفْهَمُ عَنِّي حَتَّى تِلْكَ الفَتَاةَ التِّي أَحْبَبْتُهَا وَأَحَبَّتْنِي لَمْ يَلْمَسْهَا شَيْءٌ مِنْ حَرِّ فَوَاجِعِي ، مَا ذَنْبُهَا هِيَ؟ إِنَّهَا صَغِيرَةٌ لاَ يَتَحَمَّلُ عُودُهَا مَا أَنُوءُ أَنَا بِحِمْلِهِ ....لِتَخِزَنِي الأَرْزَاءُ أَنَّى شَاءَتْ فَإِنَّ لِي صُبْحًا لاَ بُدَّ أَنْ تُشْرِقَ شَمْسُهُ فَأَنْتَصِرُ عَلَيْهَا ، لِتَكُنْ نِهَايَتِي فِي  مُسْتَنْقَعٍ آسِنٍ مَاؤُهُ ، لِتَكُنْ نِهَايَتِي فِي مَزْبَلَةٍ كَرِيهَةٍ رَائِحَتُهَا ، لِيَكُنْ ذَلِكَ ، لَكِنْ أَعِدُكَ يَا وَجَعِي أَنْ أَنْتَفِضَ، أَنْ تَلْبَسَنِي رُجُولَتِي مِنْ جَدِيدٍ ، أَنْ تُعَطِّرَنِي إِنْسَانِيَتِي مِنْ جَدِيدٍ ، أَنْ أَتَنَفَّسَ وُجُودِي مِنْ جَدِيدٍ ، فَالصَّبْرَ يَا نَفْسُ الصَّبْرَ.
 رضا يعقوب، تونس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق