غزاة الاحلام
للكاتب عمار بوخروفة
الاسم المستعار جمال جيجي
البلد: الجزائر
غزاة الاحلام قصة مهداة للاطفال ضحايا الحروب
الفصل الأول
غربت الشمس وراء جبال وتلال قرية الاحلام، تاركة ورائها سكان القرية المنكوبة والتي سادها الحزن والضعف بعد يوم قاسي طويل ودامي، نتيجة لغزوة جديدة من غزوات الاحتلال الوحشي العدائي. هذا الهجوم الأخير ترك ورائه الكثير من الدمار. غطت رائحة الدماء كل شيء، وبدا أن الموت مختبئ في كل ركن من أركان القرية. وفي أنحاء القرية ترامت جثث النساء والأطفال والعجائز مشوهة ومحترقة ومتفحمة الأطراف.
وكعادتهم بعد كل هجوم، عندما ساد الهدوء مرةً أخرى، اجتمع سكان القرية عند عميد القرية الشيخ طارق طلال، لدفن جثث ضحاياهم. وفي أثناء ذلك الاجتماع الجديد، لاحظ العميد غياب أكبر أبنائه قاسم طلال. أخذ الشيخ يردد أسماء سكان القرية واحدًا تلو الآخر، وكرر اسم ابنه قاسم مرتين أو ثلاثة، آملا أن يستمع إلى إجابة، علامة انه على قيد الحياة، إلا أن آماله ذهبت أدراج الرياح. لم يجب قاسم، وأدرك الشيخ ان ابنه قد فارق الحياة مثل كل المفقودين. استجمع العميد قوته وشجاعته، وبعد فترة طويلة من الصمت زفرة بحسرة ومرارة، ثم قال:
- نحن جميعا شجعان، وإيماننا هو مصدر شجاعتنا. يجب أن نظل متوحدين، في السراء والضراء، في الحرب والسلم. اليوم ضربنا العدو بقوة وقسوة. اليوم اختار القدر رجالنا الأعزاء والشجعان. اليوم شرفني ابني قاسم بأن أصبح أبو الشهيد، كما شرفكم جميعًا. لله ما أخذ ولله ما أعطى.
أراد الشيخ طارق ان يثبت لسكان القرية أنه الرجل القوي والشجاع الذي اعتادوه دوما، رغم خسارته الفادحة لابنه قاسم، إلا أنه بداخله قد كسر موت ابنه شجاعته، وآلم من فخره.
كان قاسم رجل شجاع ومؤمن وعاطفي وثوري في الوقت ذاته. كان في عمر الخامسة والثلاثين متزوج من ابنة عمه فاطمة طلال، ولديه طفلة جميلة صغيرة اسمها ياسمين، ذات خيال جامح، وتبلغ السادسة من العمر.
باكرًا، في ذلك اليوم، كان قاسم مع خالد وقصي وياسين وبقية أعضاء المجموعة الثورية لقرية الاحلام. سأل خالد:
- لقد تركنا بيوتنا وعشنا في تلك الكهوف بهدف واحد وهو طرد الغزاة من أرضنا، ومطاردته خارج قريتنا.
كيف يمكننا طرد العدو من قريتنا؟ سأل خالد
تفاجئ قاسم لسماع ذلك، ونظر في عينا خالد ثم سأله:
- ما الذي تعنيه يا خالد؟
- أريد أن أقول إننا لسنا كفوا لعدونا، فهو يمتلك كل شيء، طائرات القنص، والصواريخ الحديثة الموجهة، والقنابل الذكية. ونحن، ما لدينا لردعهم؟ البنادق والقنابل العتيقة. هذا كل شيء!
اقترب منه قاسم وقال بنبرات هادئة:
- لدينا ديننا، وإيماننا، وعقيدتنا الراسخة، التي تعطينا الشجاعة لمواجهة العدو.
بدا في صوت خالد حزن كبير وألم عميق وهو يحاول أن يكبح دموعه أمام قائده وأعضاء الجماعة الثورية الآخرين:
-تعرفون جميعا أنني فقدت أبنائي الأربعة في واحدة من تلك الغزوات الهمجية المتوحشة، ولم أستطيعالدفاع عنهم، لا بإيماني، ولا ببنادقي.
أجاب قاسم بغضب لم يستطع كبح جماحه:
- إن لم يكن لديك إيمان أو عقيدة، فلتخبرني لما أنت بيننا؟
غلبت العاطفة خالد، ونظر ناحية قاسم بأعين مغرورقة بالدموع قائلا:
- منذ مقتل أطفالي الأربعة، وأنا أسعى في طريق واحد وإلى هدف واحد، وهو الانتقام. ولكن بهذا العتاد فلا أظن أنني أستطيع بلوغ هدفي.
ربت قاسم على كتفه وقال:
- نجن جميعا نشاطرك ألمك العميق، وأنا أشعر بمعاناتك، ولكن هل تظن أنك الوحيد المتأثر بتلك الحرب الظالمة؟ نحن جميعا نمر بنفس الظروف، انا على سبيل المثال ابنتي ياسمين.
حملق خالد في وجه قاسم مرةً أخرى وسأله بنبرة جادة:
- ماذا حدث لياسمينتنا، زهرة القرية؟
أخذ قاسم نفسًا عميقًا وقال:
- ابنتي المسكينة أصيبت تقريبا بالجنون.
انتفض ياسين واقفًا وقال:
- كيف؟
- منذ مقتل صديقتها سارة سويداني أمام عينيها، في مدرسة الحرية، أصبحت ياسمين تعتقد أن السلام والحرب والحصار، وكافة قوى الشر، هي مخلوقات بشرية مثلنا.
أحمد مثقف القرية اقترب من قاسم وقال له:
- لا تقلق كثيرا على حالة طفلتك، فهذه ليست علامات الاضطراب العقلي.
- إذا ماذا يكون هذا؟ كيف يمكنك تفسير حالتها؟
- هذا ما نسميه في علم النفس الهروب من الواقع. ياسمين ترغب في الهرب من عالمها الواقعي والعيش في عالمها الخيالي التي شيدته وحدها. في مخيلتها فقد صنعت عالمًا نقيًا، حيث لا يوجد حرب ولا حصار ولا قوى الشر.
- أعتقد أنني أسئت تفسير حالة ابنتي، شكرا لك يا أحمد على إيضاح الامر لي، أنا ممتن لك حقًا.
ربت قاسم على كتفه. وعاد الهدوء يسود في قلب الكهف. طوال نصف ساعة لم ينبس واحدًا ببنت شفه. وفجأة دوى صوت انفجار كبير ألقى بالرجال ناحية الجدار، مما جعلهم يشعرون بالانفعال. قفز قاسم خارجًا من الكهف، ليرى ما الذي حدث. وتبعه ياسين وخالد.
- أعتقد أنهم يقصفون القرية. يا الله، ياسمين! فاطمة! يجب أن أذهب على الفور.
حاول يحيى أن يوقفه وهو يخبره أنها فكرة سيئة أن يذهب وحده:
- إذا ذهبت إلى هناك، ستتفكك الجماعة الثورية، نحتاجك هنا أيها القائد.
- إذن هل تستطيع أن تخبرني من سيعتني بعائلتي؟
- سيعتني سكان القرية بهما، لا تقلق حيالهما! الجماعة الثورية تحتاجك الآن أكثر من أي وقت مضى أيها القائد.
نظر قاسم في عينا يحيى وقال:
- استمع إلى يا يحيى، إن لم أستطع حماية عائلتي الصغيرة، فكيف سأستطيع قيادة جماعة ثورية بعد ذلك؟
أمسك ببندقية وأطلق طلقتين في الهواء، وعلى الفور ألقى بالبندقة تجاه يحيى وقال:
- أنت يا يحيى من سيحل محلي أثناء غيابي.
أطاع يحيى أوامره، وركض قاسم بكل سرعته تجاه القرية. وبمجرد وصوله إلى هناك لاحظ أن منزله قد أصيب، السقف كان مثقوبًا والنوافذ محطمة، ياسمين وأمها كانتا ممددتين بأمان أسفل أريكة، فصاح قاسم:
- ياسمين، فاطمة، أين أنتما؟
بصوت مضطرب مليء بالرعب قالت ياسمين:
- أسفل الأريكة يا أبي!
بسرعة رفع قاسم الأريكة واخرج طفلته وأمها:
- بسرعة! بسرعة! إلى الملجأ، أعتقد أنهم سيقومون بالقصف مرةً أخرى. في الوقت الذي كان قاسم يقود زوجته وطفلته إلى القبو، تذكرت ياسمين أنها تركت دميتها أسفل الأريكة:
- أرجوك يا أبي، هل يمكن أن تعود وتجلب دميتي، لقد نسيتها أسفل الأريكة، وأخشى أن تموت وحدها.
توسلت إليه ياسمين بصوت مضطرب والدموع في عينيها، حاول قاسم أن يطمأن طفلته:
- لا تقلقي يا حبيبتي!
ثم قال لزوجته:
- اعتني بها، سأذهب لإحضار الدمية.
توجهت فاطمة وياسمين إلى نفق أسفل البيت، فيما عاد قاسم لإحضار الدمية، إلا أن واحدة من طائرات العدو رمت قنبلة انفجرت بالقرب منه، كان الانفجار مدويًا، كقصف الرعد.
ركضت فاطمة ناحية قاسم، الذي سقط على الأرض، وقد قطعت رأسه، وبترت أطرافه، وقد قطعت يده وهي متشبثة بدمية طفلته. خيال قاسم وهو يسقط أمام عينا زوجته وطفلته، بدت كدمية ملطخة من الدماء خارجة من مشهد مريع لأحد أفلام الرعب.
صرخت فاطمة بصوت عالي يمكنه إيقاظ الموتى وإسماع الصم، لم يستمع أحد إلى صرخاتها، كل القرويين كانوا مختبئين في ملاجئهم، كما تحيا الأرانب في خوف.
الفصل الثاني
مضى ثلاثون يوم منذ الغزو الأخير لقرية الاحلام، وقد ترك موت قاسم وسارة سويداني صديقة ياسمين الحميمة آثارًا لا تنمحي في ذاكرة الطفلة. فمنذ ذلك اليوم لم تعد ياسمين تغادر غرفتها، بالنهار، تتأمل السماء، وبالليل، تراقب النجوم. أحست أمها فاطمة بقلق شديد وقالت:
- طفلتي العزيزة، ألم تنمي بعد؟
- لا يا أماه، ليس بعد.
- لماذا يا حبيبتي؟ لقد مضى عليكِ شهرًا وأنتِ في تلك الحالة. تنامين فقط لدقائق معدودة، وبالكاد تغمضين عينيكِ، قبل أن توقظ الكوابيس التي لا تفارقك. ألم تنسي بعد مقتل صديقتك سارة؟
- كلا يا أماه، فروحها ترافقني في نومي وفي يقظتي.
سألت فاطمة في خوف:
- ماذا تعنين يا بنيتي؟
- في يوم الغزو، كنا جميعا تلميذات ومدرسات، نركض في ساحة المدرسة، نبحث عن مأوي يعصمنا من الموت الوحشي، وفجأة تذكرت سارة زهورها التي نسيتها في الفصل.
- ما هي تلك الزهور التي تتحدثين عنها؟
- كل يوم تحضر سارة إلى المدرسة وهي تحمل باقة جميلة من الزهور. وعندما أسألها "إلى من ستقدمين تلك الزهور؟" تجيبني ببراءة "سأقدمها إلى السلام عندما يأتي لزيارتنا، ولو لم يأت، سأذهب لمقابلته بنفسي، إنه سيد الكون وهو من سينقذنا."
- سارة رغبت أن تقابل السلام، يا لها من فكرة طريفة.
- نعم يا أماه، لقد سارت طوال حياتها في طريقة واحد، الطريق الذي يقودها إلى السلام، وأعتقد أنها وجدته أخيرًا.
فقال فاطمة متحيرة:
- وكيف وجدت سارة الطريق إلى السلام؟
- بعدما توقف القصف، كنا جميعا هناك، تلميذات ومعلمات، نستمع إلى كلماتها الأخيرة. هل تعريف يا اماه ماذا أخبرتنا وهي تموت؟
- لا، ما الذي أخبرتك به يا عزيزتي؟
- لقد ابتسمت وقالت "تعرفين يا ياسمين، لا أحتاج لأحد كي يدلني على الطريق إلى السلام، فأنا أراه بقربي، أمام عيناي، وأنا ذاهبة إلى هناك وحدي."
- هل تعرفين، سارة كانت محقة يا عزيزتي. ربما لا تكون ميتة كما نعتقد جميعا، ولكنها ذهبت إلى عالم أخر بعيد عن عالمنا، وأجمل منه، حيث يسود الحب والسلام، ولا يوجد مكان للحرب أو الحصار.
- ولما لا نستطيع نحن أيضًا الذهاب إلى هناك يا أماه؟
- لا يا حبيبتي، لا نستطيع الذهاب إلى هناك بإرادتنا.
- لماذا؟ لقد أخبرتني للتو أن هذا العالم يسوده السلام والحب ولا يوجد به مكان للحرب والحصار! فلما لا نستطيع الذهاب إلى هناك إذن؟
- لا أستطيع أن أشرح لكِ؛ فالأمر معقد للغاية بالنسبة لسنك يا عزيزتي. ولكني أؤكد لكِ أنكِ عندما تكبرين ستفهمين كل شيء بنفسك.
قالت ياسمين بغضب:
- لا أريد أن أكبر يا أماه، أفضل البقاء طفلة على أن أكبر وأصبح واحدة من هؤلاء البالغين الذين يحبون الحرب، وقتل الأطفال الأبرياء بدون شفقة، ولا يشعرون بالندم حيال جرائمهم.
- ولكن يا عزيزتي، ليس كل البالغين يحبون الحرب، هناك منهم أناس طيبون يحبون السلام مثلك ومثل سارة.
- إن كان يوجد في عالم الكبار من يحب السلام، كما أخبرتيني للتو، فلا لا يذهبون للبحث عن السلام، لكي يضع حدًا للحرب وقوى الشر؟
قالت فاطمة بابتسامة كبيرة على وجهها:
- هل تعتقدين حقًا أن السلام وقوى الخير بشر مثلنا؟ وأننا نلجأ لهم في كل مرة تتعرض القرية للغزو من الحرب وقوى الشر؟
- ومن يكون هؤلاء؟ أخبريني يا اماه. من هو السلام؟ ومن هو الحرب بالنسبة لكِ؟
- السلام يا حبيبتي هو الإحساس بالطمأنينة الذي يشعر به الكبار.
- كيف؟
- بمعنى آخر، عندما لا يشعرون مجددًا بالكراهية في قلوبهم، عندها يتمنون السلام يا حبيبتي.
- ولما كانت سارة تنتظر السلام كي تقدم له الزهور؟
- لأن سارة كانت تعتقد أن السلام مخلوق بشري، نستطيع أن نتحدث له ونأتمنه على أسرارنا. ولكن ما هذا إلا ثمرة مخيلة فتاة صغيرة.
قاطعت ياسمين أمها بحدة:
- أولًا، لم تتخيل سارة السلام كمخلوق بشري، فالبشر يحبون الحرب وقتل الأطفال الأبرياء!
- وكيف وصفته لكِ إذن؟
- كانت تصفه دوما كفارس محب للعدالة، يمتطي حصانه المخلص، ويحمل سيف العدالة العظيم. ويستطيع جناحاه العظيمان تغطية القرية كلها، ويحر الأطفال الأبرياء من أسر الحرب الظالمة. هكذا وصفت سارة السلام لي.
- لقد كان هذا من ثمرة خيالها، فالأطفال يصفون الأشياء كما يرونها في عقولهم، ولكن الواقع مختلف تمامًا.
- ومن هو السلام بالنسبة لكِ يا أماه؟
- كما أخبرتكِ من قبل، هي أشياء حسية يقدرها الناضجون، أشياء يشعرون بها ولا يقدرون على لمسها كما يلمسون الأشياء المادية.
- والحرب شيء يخلقه الكبار أيضا.
- نعم يا عزيزتي، الحرب شيء يصنعه الكبار لتحقيق أغراضهم الخاصة.
- ولكن لما هذا التناقض في عالم الكبار يا أماه؟ كيف يصنعون السلام والحرب في الوقت ذاته! حياة الكبار هي مجموعة من التناقضات.
- أنت محقة يا عزيزتي، هو عالم مليء بالتناقضات. فالناضجون يمكنهم صنع السلام وكذلك الحرب، وأحيانا يخوضون حربًا من أجل فرض السلام.
- أماه لا أفهم، كيف يصنعون الحرب وهم يتمنون السلام؟ كيف يتخيلون أن تحل السماء محل الأرض وتحل الأرض محل السماء؟
- مجددًا لا أستطيع شرح كل شيء لكِ، إنه معقد بالنسبة لعمرك، بمرور الوقت، ستفهمين كل شيء وحدك.
- أخبريني يا أماه، من هو الحصار؟
- ولكن هذا ليس صحيح عزيزتي، ليس صحيحًا على الإطلاق.
- ما هو يا أماه؟
- طريقتك في السؤال عن الحصار، كأنك تسألين عن إنسان من لحمٍ ودم!
- وكيف ترغبين أن أصيغ السؤال يا اماه؟
- بأن تسألينني عن معنى كلمة الحصار؟
- وما الذي تعنيه تلك الكلمة يا أماه؟
- الحصار يا حبيبتي، هو قانون يفرضه البالغون، الدول القوية على الدول الضعيفة. إنهم يمنعوننا من شراء الحليب لأطفالنا، والدواء لمرضانا.
- ولما لا ننتج نحن الحليب لأطفالنا والدواء لمرضانا، وبهذا لا نحتاج لشرائه من هؤلاء الذين يرغبون في موتنا.
- ولكن يا حبيبتي، نحن ننتج الحليب لأطفالنا والدواء لمرضانا، ولكنها للأسف ليست كافية لتلبية حاجتنا اليومية.
- ولما تفرض الدول القوية هذا القانون علينا؟ ماذا فعلنا لتلك الدول كي يعاملوننا بهذه الطريقة؟
- نحن لم نفعل لهم شيئًا، هم يرون أنهم بهذا القانون يفرضون السلام على المنطقة.
- أنتِ تناقضين نفسك للمرة الثانية يا أماه. في البداية تخبرينني أنهم يخوضون الحرب كي يعم السلام، والآن تخبرينني أنهم يفرضون الحصار ضد الدول الفقيرة كي يسود السلام في المنطقة. هذا دليل آخر على التناقض الشديد الذي يمتلئ به عالم الكبار.
- ما زلت أصر أنني لا أستطيع شرح كل شيء لكِ، فالأمر معقد للغاية. من الضروري أن تفهمي أن الحصار ليس شيء مادي نستطيع لمسه.
- تعرفين يا أماه، لطالما وصفت لي سارة الحصار بشكل مختلف.
- وكيف وصفته لكِ؟
- لقد أخبرتني أن الحصار رجل عملاق، لديه قلب من الصخر، وكل جسده مغطى بالحديد. لقد أحرق حقول القمح خاصتنا، وقتل أبقارنا، لكيلا نستطيع إنتاج الحليب وإطعام الأطفال. إنه يحب قتل الأطفال الأبرياء، ويشعر بالبهجة لمرأى النساء والعجائز يموتون من الجوع.
- ربما أجادت صديقتك سارة وصف الحصار هذه المرة، ولو كنت رسامة وطلب مني رسم الحصار، كنت سأرسمه كما وصفته لكِ.
- أماه! هل تعتقدين لو أن الأطفال هم من يحكمون العالم، هل كانوا سيفكرون في الحرب والحصار والشرور؟
قالت الأم بتعجب:
- الأطفال يحكمون العالم! هذا غريب حقًا.
- ولما لا؟ البالغون هم المسؤولون عن الحرب والحصار المتسببين في قتلنا كل يوم، إذن لما لا نستطيع العيش في مملكة بعيدًا عنهم؟
- لا يستطيع الأطفال العيش في عالم بدون الكبار يا عزيزتي، فهم يحتاجون البالغين لرعايتهم وإرشادهم. والعكس بالعكس، لا يستطيع الكبار العيش بدون أطفال.
- ولما لا يستطيع الكبار العيش في هذا العالم بدون أطفال؟
- لأن الأطفال هم مستقبل الكبار يا عزيزتي.
- هذا غريب حقا يا أمي أن نكون مستقبل الكبار الذين يرغبون موتنا في الوقت ذاته. هل تعرفين شخصًا قتل مستقبله بيداه؟
- ولكن قولي لي، من ملأ عقلك بتلك الأفكار الغريبة التي تسبق سنك؟
- هذه ليست أفكارًا غريبة يا أماه. بل هي أفكاري أنا وسارة، لطالما حلمنا بتأسيس مملكة من أجل الأطفال فقط، بعيدة عن هذا العالم الظالم الذي يسوده الحرب، والنفاق، والحقد. في مملكتنا المستقبلية، سيحاكم الأطفال الحرب والحصار وقوى الشر، ويقومون بمعاقبتهم.
- يا لبراءة سارة، كانت تحلم بأن تقدم الزهور إلى السلام بيديها، كما حلمت بتأسيس مملكة فقط للأطفال. لقد كانت حقًا فتاة غريبة، بمخيلة حية.
- وما الغريب في هذا يا أمي؟
- الغريب أنها رغم صغر سنها، فإن فكرت في أشياء يصعب على المرء تخيلها. من الصعب العثور على طفل يمتلك مخيلة تماثل مخيلة سارة. من الطريف حقًا تخيل السلام والحرب وقى الشر بشرًا مثلنا. لقد استطاعت صديقتك سارة تحقيق ذلك يا عزيزتي في عالم جميل حقا وهو عالم الأحلام. في هذا العالم نستطيع تخيل أي شيء يخطر على بالنا؛ الحرب، السلام، الحصار، ولنا مطلق الحرية في تخيلهم كما نشاء. لقد تخيلتهم صديقتك سارة في شكل طريف حقا.
- لا يجب عليكِ لومنا يا أماه، إذا أخذنا بعين الاعتبار وضع قريتنا. الغزو والغارات اليومية، حتمت علينا تخيل عالم جميل، بعيد عن هذا العالم الظالم، المبتلى بالحرب والشرور.
عند سماع فاطمة لتلك الكلمات من طفلتها الصغيرة، ضمتها في ذراعيها وقالت:
- لاتخافيياصغيرتي،فإننيأصليدائمامنأجلكومنأجلكلأطفالقريتناوأدعواللهأنيرفععليناهذهالسحابةويأخذالحربوالحصاربعيداعنقريتناحتىتستطيعونالعيشفيسلام. لا تفكري كثيرا يا طفلتي وحاولي أن تخلديإلىنومكحتىتستطيعينالنهوضباكراوتعودينإلىالمدرسةألمأخبركبأنهمأعادوابناءمدرستكمالتيتحطمتأثناءالقصف.
- لا!لاياأماه!لنأعودإلىتلكالمدرسةحتىيأتيالسلموينهي الحربويتوقف الحصار؛ كماكانتتخبرنيسارةدائما.
- لا تخافي يا صغيرتي، فلن تعودي إلى المدرسة حتى يأتي اليوم الذي تتحقق فيه كل أحلامك، وترين السلام بعينيكِ. ما يهمني الان هو الآن هو أن تنامي، فقد مضى شهر لم تنامي فيه جيدًا! لا تقلقي يا حبيبتي فهذه الليلة سأنام بجوارك.
احضنت ياسمين أمها بقوة نامت كالملاك بين ذراعيها، وهي تحلم بتلك المملكة التي ملكت أحلامها وآمالها، بعيدا عن عالم الكبار، الذي تسيطر عليه الحرب والحصاروقوى الشر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق