وتدور الأيام ....
مقالة بقلم علي الشافعي
ودّعنا ــ أيّها السادة ــ عاماً ونستقبل آخر جديداً، عام مضى وعامق آتٍ، انقضى عام بحلاوته ومرارته، وما جرت فيه المقادير، وأتى عام لا ندري ما تجري فيه المقادير، وما تخطه صروف الدهر، وأين سيُذهب بنا، وبالأحرى ما نحن صانعون بأنفسنا فيه. مضى عام ذقنا مرارته بشتى صنوفها وألوانها، وتجرعنا فيه كؤوس البؤس والتفرقة والمذلّة والهوان. كسّرنا أيدينا بأيدينا، دمرنا بيوتنا بمدافعنا، وجدعنا أنوفنا بخناجرنا، وبقرنا بطوننا بسيوفنا، وقطّعنا أرحامنا وقتلنا أطفالنا وبناتنا ونساءنا وشيوخنا، شرّدنا ذرارينا في كلّ البقاع. عقرنا خيولنا وكسرنا نصال سيوفنا ورماحنا وأفرغنا مخازن اسلحتنا, وسلّمنا رقابنا إلى العدو طائعين مختارين، تركنا الخنادق واستعذبنا الفنادق، وشربنا معه نخب التطبيع والسلام. والسبب ــ أيّها السادة الأفاضل ــ مطامع دنيوية؛ كرسي مهترئ، أو منصب زائف أو غني زائل، على حساب عذابات أطفالنا وشقاء نسائنا ورقاب مُسِنِّينا، مطامع أوصَلَتْنا إلى الهاوية, هانت علينا نفسنا فهنّا في عيون الأمم , وأصبحنا ألعوبة في أيديهم .
بين عامين ــ يا دام سعدكم ــ دمّرت عواصم ذات حضارات متجذرة في ذاكرة الزمان، واستبيحت مدن محصّنة. دول سقطت وتناثرت، ودول على حافّة السقوط والانهيار، وأخرى يعصِف بها الفقر وتنتظر الفرج. ودول مرشّحة لأحداثٍ جسام. لحقت صنعاء بأختها بغداد، وطرابلس بحلب. أمّة يأكل بعضها بعضاً، ويشرب سادتها نخب انتصاراتهم المزيّفة، ويهرقون كؤوسهم على الغواني ، أمّة تنفق ليلة عيد الميلاد أضعاف ما تحتاجه السودان لإشباع بطون شعبها الذي يثور اليوم على الفقر والجوع.
بأيدينا ــ يا سادتي ــ بأيدينا سلّمنا رقابنا لأعدائنا، فذبحونا ذبح الشياه في مسالخ تجار الدماء، فأخذوا يصبّون حمم أحقاد كبتوها في صدورهم وتوارثوها عبر الأجيال يصرحون بها كزلاّت لسان ، ويجرّبون فينا جديد أسلحة دمارهم الشامل، ونحن حامدون شاكرون، نسبّح بآلائهم آناء الليل وأطراف النهار.
بيتا ــ أيّها السادة الكرام ــ هُدّم على رؤوس ساكنيه، كم مدرسة بعثرت دفاتر طلبتها، كم ضفيرة سحبت وجرجرت على الأرض، كم قلم كسر، كم طفل بات طاوياً، هذا إن سلم من ريب المنون.
عام جديد ــ يا سادة ــ ابتدأ بأكثر حكومات جيراننا تطرفا ودموية , عام ابتدأ باستباحة الأقصى المبارك تحت سمع وبصر أمة المليار, قوبلت بالشجب والإدانة والاحتفاظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين.
لكن العزم ــ أيّها السادة الأفاضل ــ موجود، والأمل بإرادة الله سبحانه معقود، ولابدّ لهذا الليل من آخر والضباب من الانحسار والغيوم من الانقشاع المخاض أن ينتهي مهما كان عسيراً، ومهما أفرغ من تشوهات. وشواهد التاريخ تثبت أننا أمة تتعثر لكنها لا تموت، لا تموت أمّة أنجبت الرشيد والمعتصم وصلاح الدين وبيبرس ومحمد الفاتح وسليمان القانوني، أمّة استوعبت همجية المغول وحقد الصليبيين، لتعود بعد فترة قصيرة؛ وتحديداً في القرن السادس عشر أقوى أمّة على وجه الأرض، في دولة مساحة أراضيها19 مليون كم2، اجتاحت وحطمت الكثير من عواصم الاتحاد الأوروبي الحالية، وذلك في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني رحمه الله، الذي كان أسطوله الوحيد الذي يخوض عباب المتوسط، ومركزه ميناء طولون الفرنسي.
سيولد بإذن الله فجر تنعم فيه الأمّة بالأمن وبالأمان، وتتنسم صَبا الحرية، وتشرق الشمس لتشعّ من جديد وتملأ أرجاء الكون نوراً وعدلاً كما مُلِئت جوراً وظلماً ، وسيبعث من يقول يا خيل الله اركبي.
الغد لنا , والمستقبل لأبنائنا , سيحلّ الربيع وتزهر الارض وتشمخ اشجار التين والزيتون واللوز والعنب , سيعود برتقال يافا لأبنائها, ورمان الجليل لأصحابه , وميناء حيفا ترفرف فوقه اعلام الوطن , وفيروز تعو لتغني :
خبطة قدمكم عالأرض هدّارة انتو الأحبة ولكم الصدارة
بالمناسبة ـ يا دام مجد آبائكم ـ هل تعلمون أنّ التتار دخلوا ديار الإسلام باطشين مخرّبين مدمّرين، وخرجوا منها مسلمين في بضع سنين، وأنّ أغلب العائلات الصليبية رفضت العودة إلى ديارها، بعد معركة حطين، وفضلت العيش بين المسلمين. فتأكدوا ــ يا رعاكم الله ــ أنّ العاقبة لهذه الأمّة، وأنّ الله ناصرها. طابت أوقاتكم.
بقلمي علي محمود الشافعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق