السبت، 18 مارس 2023

رضيتُ من الغَنِيمَةِ / بقلم /علي الشافعي

 رضيتُ من الغَنِيمَةِ بالإيابِ

قصة بقلم علي الشافعي
عجز بيت من الشعر ــ يا دام سعدكم ــ جرى مجرى المثل , قائله الملك الضليل الشاعر امرؤ القيس بن حجر الكندي, أحد أشهر شعراء المعلقات ومن شعراء الطبقة الأولى حسب ترتيب صاحب طبقات فحول الشعراء ( ابن سلّام الجمحي ) , وصدره :
لقد طوّفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
يضرب عند القناعة بالسلامة أو العودة سالما إلى بيته , دون الحصول على الضالة المنشودة . وأصل الحكاية أن حجر بن الحارث والد امرئ القيس كان ملكا على بني أسد وغطفان من قبيلة كندة , وكانت ديارهم اليمن غربيّ حضرموت , وكان حجر طاغية جباراً فثاروا عليه ، وامتنعوا عن أداء الإتاوة فسار إليهم فأخذ سَرَواتهم (سادتهم) وضربهم بالعِصيِّ , فسُمّوا عبيد العصا، واستباح أموالهم وطردهم من ديارهم, فحقدوا عليه حتى أصابوا منه غِرّة فقتلوه.لم يكن امرؤ القيس في مطلع حياته يؤخذ بأُبَّهة الملك وشهرة السلطة والحكم، بل شغف بالشعر واللهو والصيد والخمر. فطرده أبوه وخلعه لمجونه وتهتكه وتشبيبه بنساء القبيلة وتصديه لهنّ على عيون الماء ، فهام الشاعر على وجهه مع جماعة من الصعاليك , فكانوا إذا وجدوا ماء أقاموا عليه يصطادون وينحرون ويحتسون ويلهون ويشببون .علم امرؤ القيس بمقتل أبيه وهو بين ندمائه فقال عبارته الشهيرة: «ضيّعني أبي صغيراً وحَمّلني دمه كبيراً، لا صحوَ اليوم ولا سكر غداً، اليومَ خمرٌ وغداً أمر»، وحلف لا يغسل رأسه ولا يشرب خمراً ولا يمسّ الطيب حتى يدرك ثأره من بني أسد ويسترجع ملكه الضائع. أغار امرؤ القيس على بني أسد في حشد عظيم من قبيلتي بكر وتغلب فأدركهم, وقتل فيهم قتلاً ذريعاً وأراد الاستمرار في مطاردتهم فتخلى عنه من معه, فلم يزل يتنقل مستجيراً من قوم إلى قوم طلبا للنًصرة, وأخيراً لم يجد بداً من اللجوء إلى امبراطور الروم جستنيان، بوساطة الحارث أمير الغساسنة فأكرمه ونادمه، واستمدّه امرؤ القيس فوعده ذلك وماطل ، فشرع بالعودة وقال قصيدته التي منها البيت آنفا , لكنه توفي وهو في طريق العودة إلى دياره. ويقال إن الامبراطورـ لوشاية بلغته عنه ـ أهداه حلّة مسمومة لبسها فأسرع فيه السم، ولما وصل إلى أنقرة ثقل فأقام بها حتى مات، ودفن بجوار قبر امرأة غريبة فقال :
أجارتنا إن الخطوب تنوب وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب
لكن ما الذي ذكرني بهذا المثل ؟ سأٌقول لكم وأمري إلى الله بعد أن تصلوا على رسول الله :خمسة من الأخوة جمعهم القدر في مناسبة جميلة , في بلد أجمل , في الفصل الأجمل , لأداء الواجب , فتوافقوا على أن يختلسوا من الزمان يوما ليقوموا برحلة عكّوبية , بما أن الموسم الآن موسمه , فرصة لقضاء يوم جميل بين الحقول بحثا عن تلك النبتة , ومن يدري فلربما لا تتكرر مثل هذه الفرصة , فقد جاوز أكثرنا الستين ,والحياة والظروف تسرقان المرء من أحب الأمور إليه .العكوب ــ رعاكم الله ــ نبتة جبلية برية شهيرة, تنبت على سفوح الجبال المنحدرة, تظهر في أواخر فصل الشتاء، وأوائل فصل الربيع في بلاد الشام(فلسطين ولبنان وسورية والأردن) , ويعد أكلة شعبية لذيذة ومفيدة . يطبخ لبه بعد إزالة الأشواك الخارجية بعدة طرق حسب البيئات . وجبة طيبة المذاق رغم صعوبة التقاطها وتجهيزها بسبب ما يحمل رأسها من الشوك. ونبات العكوب أسطواني رفيع أخضر مائل إلى البياض , الأوراق ذات لون أخضر لامع تنتهي بأشواك طويلة. الأزهار بنفسجية محمرة تنتهي بأشواك , تقوم النساء في المنزل بإزالة الاغشية أو الأوراق مع القمم الشوكية بحذر, فتظهر حبة العكوب كبيضة الدجاجة .يقال ــ والعهدة على الراوي ــ أن للعكوب فوائد طبية جمة لعلاج العديد من أمراض وحصى المرارة والصداع النصفي (الشقيقة), طارد للغازات يعالج بعض حالات القولون, مقوي عام ومخفض للحرارة وضغط الدم , لكن الناس تجمعه لاعتقادهم أن كل ما ينبت في الطبيعة لذيذ ومفيد .كثير من الناس لهم هواية البحث عنه وجمعه , ويجهزون أنفسهم وأدواتهم ومركباتهم , تماما كرحلات صيد الحجل والطيور المهاجرة ,أو البحث عن الكمأة في البادية . أعددنا كل شيء يمكن أن نحتاجه للرحلة من سكاكين ومقصات وأوعية , ثم المقاعد وأدوات الطعام والشراب والمرطبات ,وبعض الإسعافات الأولية لزوم رحلة كهذه , فنحن في رحلة برية جبلية, قد لا نجد مكانا لشراء ما قد نحتاجه . وقد نقطع مسافات؛ ونصعد جبالا وننحدر في أودية بحثا عنها , إضافة لبعض النباتات التي تظهر مع بدية فصل الربيع وتؤكل بل وتكون لذيذة الطعم وفوائدها جليلة كالحويرة والخبيزة والخردل والحميضة واللوف والزعمط والزعتر البرّي والشومر , يعني باختصار هي رحلة استجمام ولمّة الأخوة , ونحن بين الأمل والرجاء , ولربما عدنا خالي الوفاض , فنرضى من الغنيمة بالإياب, ونكون قد اكتسبنا اللمة والتعرف على منطق جميلة من وطننا الحبيب . انطلقت سيارة الجيب وهي سيّارة مهيئة أصلا لمثل هذه المناطق الوعرة . بين هرج ومرح وتصفيق وغناء, لحظات تنسينا كل منغصات الحياة وسلبيتها ,لا نعرف سوي الضحك وذكريات الماضي بحلوها ومرها, الحديث عن ذكريات حماقات الطفولة والشباب ,وأحلام اليقظة والسراب .كانت وجهتنا السفوح الغربية للمنطقة الشفا ( السفوح الغربية ) لمحافظة البلقاء , والتي تمتاز بدفء مناخها في هذا الوقت من السنة, فتكون هذه النباتات قد كبرت والعكوب بدا بعمل البيض قبيل الإزهار , وهذا ما نريده . وطبعا لا بد أن نمر بمدينة من أشهر المدن ذات المناخ الربيعي الساحر , والمياه العذبة , والكرم الأصيل ؛تلك هي مدينة السلط . انطلقت السيارة على صوت المزمار البلدي والأغاني التراثية تتهادى بين الخمائل على جنبات وادي السلط الشهير بشدة انحداره وتعرجاته , توقفنا قليلا عي جنبات الوادي عند المياه العذبة لتناول القهوة , ففاع الشباب على مجرى الماء ليعودوا بحمل كبير من نبات الحويرة والشومر وهما نبتتان غضتان تنبتان على جوانب المياه الجارة والوديان في مثل هذا الوقت من العام , توقفنا قليلا أيضا عند أشجار اللوز بأزهارها ناصعة البياض لنأخذ بعض الصور التذكارية مع تلك المناظر الخلابة . على بعد حوالي خمس كيلومترات من الانحدار وعلى الجانب الأيمن طريق ضيقة , كتب على لافتة صغيرة وعلى استحياء (عيرا ويرقا) رغم أن البلدتين في غاية الجمال من حيث المروج الخصبة والغابات الخلابة , والتاريخ العريق, والحضارة والثورة العمرانية , إضافة إلى دماثة أهلها وطيبهم . وهده كانت وجهتنا الثانية سفوح جبالها المشهورة بنبات العكوب, والأمل يحدونا ان نعود بغنيمة وفيرة تكون غداءنا ليزم غد .مالت بنا السيارة وسط مرج أخضر كبساط منمنم بشتى ألوان الأزاهير حتى وصلنا غايتنا , سفوح جبال منحدرة خضراء يانعة غناء , تسمع صوت الحجل والبلابل والعصافير مبتهجة بفصل الدفء والنماء . كل حمل أسلحته التي سيخوض بها غمار تلك المعركة مع تلك النبتة الشوكية المتطرفة والمتحصنة بقمم الجبال , كل يمم جهة يجوبون الجبال والوديان ساعتين من الزمان , ليعودوا جميعا بخمس عشرة ثمرة , لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تكون وجبة لأكثر من واحد والسبب ان الموسم المطري ما حسبنا له حسابا , إذ تأخر هذا العام , فمازالت النبتة في صغيرة لم تصل مرحلة الاباضة , لعلنا استعجلنا الأمر قبل أن يعود كلٌ الى دياره, فيضيع علينا قضاء يوم ممتع, حتى لو لم نحظ من الغنيمة إلا بالرحلة , عندها تذكرت المثل : رضيت من الغنيمة بالإياب .تناولنا الإفطار على سفوح الجبال مع أواب الشاي التي طبخت بعناية على النار, ثم أكملنا المسير نحو الغور لنستمتع بمنظر الماء والطور المهاجرة , على شاطئ سد الكرامة جلسنا نستجمّ ونستمتع بمنظر المياه الدافئة , وتحويم الطيور فوقها زرافات زرافات , أخذنا نتجول بعد ذلك في المزارع وسط ترحيب أهلها , وأهدينا بعض منتجاتها , فعدنا وقد امتلأت السيارة ما تجود به الأرض لنعود أدراجنا بعد أن قضينا يوما حافلا بالخيرات والمسرات . طابت أوقاتكم .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق