السياج اللعين
قصة قصيرة بقلم علي الشافعي
حكاية ــ يا دام سعدكم ــ ليست من نسج الخيال , لكنها قصة كتبت بالبنان على لوح المكان , في غفلة من الزمان , وخذلان من الإخوان وغطرسة من بني الانسان , حكاية نقشت بالإبر على الحجر وسيقان الشجر , لتكون عبرة لمن يبغي العبر , تعالوا بنا نبدأ الحكاية بعد أن تصلوا على خير البرايا فأقول :
على صخرة منيفة فوق ربوة وسط مرج أخضر جلس صاحبنا , حوله سنابل القمح بدأت تخرج على استحياء من خدرها , كورود أول تفتح أزهارها , تبللها قطرات الندى التي توشك على الرحيل ضحى يفعل حرارة الشمس الربيعية , يجلس مستقبلا باب الغرب بوجهه , بينما ترك أشعة الشمس تتسلل إلى ظهره, فتكسبه دفئا لذيذا يسري في العظام والأطراف ,بينما البرودة لا تفارق الحشا والروح وغصة في حلقه , وبحة في صوته مضى عليهما ردح من الزمان.
على بعد حوالي ثلاثمائة متر وعلى مد البصر شمالا وجنوبا سياج من الاسلاك الشائكة, تمنع أصغر الطيور من اختراقه فضلا عن الإنسان أو الحيوان , خلفه تله فوقها كما تبدو لعينيه اللتين أثقلتهما السنون نقطة مراقبة لحرس الحدود, خلفها بلدة كانت يوم تركها تعجّ بالحياة والحركة والحيوية , هادئة وادعة في حضن الجبل .
أخرج من جيبه غليونا وضعه بين شفتيه وأسنانه ببطء لا يخلو من الأسى ,تسللت يده مرة أخرى إلى جيب صغيرة تحت حزام قمبازه الذي قصقص البِلى بعض أطرافه , أخرج ولّاعة صدئ بعضها , كان يطلق عليها باللهجة المحلية (القدّاحة ) ,أشعل الغليون , أخذ نفسا عميقا ثم نفث الدخان من صدره كانه يسحب معه هموما سكنت لواعج الروح , واستقرت في الأحشاء , سرح ببصر زائغ وفكر تائه :
خلف تلك التلة وكانت قريته ؛مراتع الصبا ومرابع الشباب وأحلام المستقبل , بلدة صغيرة تفيض نشاطا كل صباح , عامرة بشوارعها وطرقاتها بدكاكينها, وحكايات أهلها , أسراب الرجال والنساء والأطفال خارجون إلى أعمالهم , هؤلاء مزارعون , وأولئك طلاب , وآخرون تجار, هذا يحمل معولا وآخر مجرفة أو منجل , نساء يحملن فوق رؤوسها سررا صغيرة للرضع من الأطفال , وأخر زوّادات في سلال من القصيب وركاوي الماء , عربات تجرها الخيول أو البغال أو الحمير , تنقل المحاصيل إلى سوق المدينة ,صبايا بالجرار فوق رؤوسهن مبكرات إلى العين , تذكّر حب الحلا من دكان العم فاضل , وتجمهر الأطفال على بابها كل صباح يشترون لوازمهم قبل الانصراف إلى المدرسة , البنات بالمراييل الزرقاء والخضراء يتقافزن كفراشات بين الخمائل , قطعان الماشية تنتشرعلى السفوح ,رفوف الحجل والحمام والطيور المها جرة , ابتسم وهو يقبض على عصاه كأنها فوهة خرطوشة الصيد , تلك كانت هوايته ؛ تعقب الطيور وصيدها زرافات ووحدانا , زقزقات الدوري والشحارير والبلابل , مواسم الحصاد وقطاف الزيتون ودرسه وعصره , السّمر في الليالي المقمرة على البيادر على أنغام المجوز والشبابة , الرقصات والسامر في الأعراس , تذكر بيت العائلة ودفء الأسرة التحلق حول المائدة , السهر ليالي الشتاء الطويلة حول كانون النار, تذكر بيته الذي تعاون الأهل جميعا والجيران على بنائه له , ليكون بيت الزوجية له ولعروسه , غص حلقه وهو يتذكر أنه لم يسكنه فقد فتكت به عوادي الدهر , وهادمو اللذات , ومفرّقو الجماعات .
تذكر ست الحبايب وهي تجول بذاكرتها في بنات القرية لتختار عروسا حلوة من بيت عز وجاه وكرم , تليق بولدها البكر , والذي ما رأت في مثل شمائله وصفاته , وأخيرا وقع اختيارها والغزالة الشرود والبنت الودود . وأحلا زهرة في بستان الورود . دارت الرحلات المكوكية النسائية للحصول على الموافقة المبدئية , عيوش ابنة أبي حمدان , يعرفها وهي صغيرة قبل أن تحتجب في البيت , حصلت الموافقة وجاء دور الرجال لطلب يد المحروسة وتحديد المهر , ثم الجاهة الكبيرة التي ذهبت لبيت والدها يرأسها المختار , اتفقت العائلتان على تحديد يوم الخامس عشر من أيار لكتب الكتاب واتمام الزفاف .
تنهد وسحب نفسا من غليونه ــ يا فرحة ما تمت !! ففي صبيحة يوم الثاني عشر من أيار عام 48 , يوم لا يمحى من الذاكرة , صبيحة ذلك اليوم ظهرت الشمس على غير عادتها مغبرّا أفقها , مائلا للاصفرار قرصها , كأنها تبكي أهلها , وتنعى بنيها , خرج الناس إلى أعمالهم كالعادة , وقلوبهم في أقدامهم فقد تناهى إلى مسامعهم أنباء القرى التي خرّبت وتهجر من لم يقتل من أبنائها , ومتى يأتي الدور عليهم .
تجهز الشبان بكل وسائل الدفاع على ندرتها ؛بنوا المتاريس وحصنوا القرية ,لكن الكف لا يقاوم مخرزا ,والبندقية لا تقاوم دبابة , في حوالي التاسعة صباحا وعى الناس على أصوات القنابل والمدافع من كل الجهات , قصف عنيف طال كل بيت فيها ,وساد الهرج والمرج , مئات الجثث بين نساء وأطفال وشيوخ , الخراب والدمار في كل مكان, وبدا النزوح ورحلة الشتات , وهام الناس على وجوههم في البلاد , لا يعلم أفراد العائلة أين توجه باقيهم ؛ قسم التقوا بهم يعد أشهر وسنوات أي بعد تسجيلهم في دفاتر وكالة الغوث .
شاهد صاحبنا وهو خارج من القرية امرأة وقعت ميتة خارج البلدة , ووليدها يصيح يحاول الرضاع من أمه, مشهدا لا ينسى , حمل الوليد د معه حتى عثر على أقاربه و في احد مخيمات الشتات , تفرغ بعد ذلك للبحث عن عروسه, تعبت قدماه وهن جسده , لم يعثر لها على اثر في سجلات وكالة الغوث ولا حتى ذويها , تناهى إلى خلده واحدة من اثنتين أحلاهما مرّ: إما أنها بقيت داخل الحدود حيث ونزحت إلى إحدى قرى المثلث التي وقعت في براثن العدو في معاهدة ترسيم الحدود. بعث برقيات الى الصليب الأحمر دون رد ,انهمرت الدموع من عينيه أمعقول أنها ...؟ لم يقلها بلسانه , وشطّ الفكر بين مصدق ومكذب , وما تنبه إلا على صوت رشقات من الرصاص تحذره أن موعد الاقتراب من السياج قد انتهى , وما عليه الا جرّ أذيول الخيبة والانصراف , طابت أوقاتكم .
قصة علي محمود الشافعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق